يُنكِرُ بعض أهل العلم على من يعطي دروساً في المسجد قبل خطبة الجمعة، لعدَّة أسباب، و أهمُّها :
- أنَّ ذلك لم يكن من عمل سلفنا الصالح.
- أنَّ إلقاء الدرس فيه إشغال لعموم المبكرين للحضور للمسجد عمَّا جاؤوا له من تلاوة القرآن والذكر والدعاء.
- الاحتجاج بحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد وابن خزيمة أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم: (نهى عن الحِلَق يوم الجمعة قبل الصلاة).
الحلق: بكسر الحاء المهملة، وفتح اللام، وإسكان القاف.
ولهذا نجد المُحدّث الألباني يرى عدم جواز ذلك وأنّ من فعله آثم، وكذلك الشيخ الفقيه ابن عثيمين يرى أنّه منكر وبدعة.
والذي يظهر وجه الصواب فيه:
جواز إعطاء درس علمي قبل خطبة الجمعة، وعدم الحرج في ذلك، وذلك لعدّة أمور:
1) أنَّ الحديث وإن كان مختلفاً في تحسينه وتضيعفه، فهو كذلك فيه اختلاف في ذكر علَّة النهي عن التحلق، وذلك لأنَّ هنالك من رأى أنَّ المراد بالحديث:
- كراهة التحلق للتدريس كما هو رأي البغوي والرازي والخطابي.
- ومنهم من رأى أنَّ المراد من النهي عن التحلق إذا كان من في المسجد كثرة كاثرة والمسجد صغيراً، وهو رأي البيهقي والنووي والطحاوي والخطيب البغدادي.
- وهنالك من رأى أنَّ المراد بالنهي عن التحلُّق للحديث في أمور الدنيا، وهو اختيار شيخنا العلامة ابن جبرين رحمه الله.
ولعلَّ ما يؤيد هذا القول ما جاء في الحديث الذي جاء من رواية ابن خزيمة وابن ابي شيبة وفيها : (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التحلق للحديث يوم الجمعة قبل الصلاة) ويظهر أن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله كان له قول آخر مقارب لهذا وبين أن إن لم يكن في هذه الحلق محذوراً بسبب التضييق على الناس فإنَّه لا محظور فيها..
على أنَّ النهي كذلك في هذا الحديث مختلف فيه بين العلماء هل هو نهي لكراهة التحريم أم للتنزيه كذلك؟!!
2) ثبت عن جماعة من السلف الصالح من الصحابة والتابعين فعلهم لذلك، بأسانيد حسان وجياد وصحاح ومنهم عدد كثير من كبار الصحابة، وعلى رأسهم أبو هريرة رضي الله عنه حيث كان يحدث حتى إذا سمع باب المقصورة لخروج الإمام للصلاة جلس) كما هو في المستدرك بسند صححه الحاكم والذهبي.
فالصحابي الجليل أبو هريرة لم يفهم ما فهمه بعض أكابر علمائنا أنَّ التدريس قبل خطبة الجمعة من قبيل التشويش على الناس فلو كان من هذا القبيل لما فعله الصحابي الجليل أبو هريرة.
ومِمَّن نُقِلَ عنه جواز ذلك والعمل به كذلك: عمر بن الخطاب وإذنه بالتدريس، والسائب بن يزيد، وعبد الله بن بسر،وعبد الله بن عمر، وسلمان الفارسي.
بل ورد في مصنف ابن أبي شيبة (5590) بإسناد جيد أن معاوية بن قرة قال ( أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من مزينة ليس منهم إلا من طعن أو طعن، أو ضرب أو ضرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الجمعة اغتسلوا، ولبسوا من صالح ثيابهم، ونسموا من طيب نسائهم، ثمَّ أتوا الجمعة، وصلوا ركعتين، ثم جلسوا يبثون العلم والسنَّة حتَّى يخرج الإمام).
وقد ورد كذلك هذا الفعل عن جماعة من أهل العلم منهم الإمام مالك ، ويحيى القطان.
بل قال الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه : (وقد رأيت كافة شيوخنا من الفقهاء والمحدثين يفعلونه، وجاء مثله عن عدة من الصحابة والتابعين).
والخلاصة جواز ذلك، خاصّة إذا فعله لحاجة أهل المسجد إذ يرى أنّهم سيجتمعون لأجل تلقّي العلم والحرص عليه؛ فذلك لا حرج فيه، ولا مانع من فعله حيناً وتركه حيناً ؛لكي لا يظنه عوام الناس فريضة محكمة أو سنة متَّبعة، فيقتصر على الإباحة والجواز فحسب.
والله أعلم.