وسطَ سَهْلٍ فسيحٍ يَخْتَرِقُهُ نهرٌ عذبٌ كان هناك غابةٌ برّيّةٌ فيها من كُلّ أنواعِ الشجرِ والنّبات
وكانت جَداولُ صغيرةٌ صافيةٌ تَجْرِي في أَنحاءِ الغَابَةِ تَسْقِيْها، وتُشَكِّلُ بِرَكاً ومُسْتَنْقَعاتٍ تَنْبُتُ فيها
أنواعٌ من الزَّنابقِ والحَشائشِ، وتجولُ فيها أَنواعٌ من الأَسماكِ الصّغيرةِ والمُتَوسّطةِ الحَجم
كانَ كُلُّ شَيءٍ في الغَابَةِ جَمِيلاً حُلْواً، رائقاً، مُعْجِباً
وعُرِفت الغَابَةُ بغابةِ السَّهل الأَخْضَر لأنها كانَتْ مشهورةً بأشجارها
غَنيّةً بثمارِها وأَزْهَارِها، كثيرة الوُرود والزّنابقِ والنّباتات العِطريّةِ
وكانَتْ مَزاياها كثيرةً جِدّاً: من جَوٍّ لطيفٍ، ومياهٍ عَذْبَةٍ
وأَشجارٍ مُثمرةٍ، وأشجارٍ للزّينة
ووجدَتْ بعضُ الحَيواناتِ الأَهليّة، وأَنواعٌ من الطُّيور مأوًى في الحَدِيقة، وغذاءً تعيشُ به
بل إنّ بَعْضَ الحَشراتِ ـ وخُصوصاً الحشَراتُ النّافِعَةُ ـ وجَدَتْ في الغابَةِ مَلاذاً آمِناً
وعَيْشاً هانئاً وطَعاماً وفيراً
وكانَ لونُ الغابَةِ من بعيدٍ أخْضَرَ، شديد الخُضْرَةِ: بِسَبَبِ كثافَةِ الأَشجار، وحُسْنِ خُضْرَتِها
وكثرة أَشجارِ الزّينةِ والأَشجارِ المُثمرة
من أَمثال: شجر الجَوْز، والتُّفّاح، والكَرز، والمِشْمِشِ، والخَوْخ
والدُّرَّاق والإجاصِ، والتُّوتِ بأَنْوَاعهِ
وكانت أصواتُ الحيواناتِ والطُّيور والحَشَراتِ تَصْدُرُ من جَوانب الغَابة
وتبعَثُ فيها الحَيوِيَّةَ، والشُّعورَ بالحَركةِ الدّائمة
وهَكذا كانَ المَنْظَرُ جَمِيْلاً، وكانت الأَصْواتُ مُؤنِسَةً، وإن اختلفَت وتداخلتْ من أصواتِ الحيَوانات الأهليّة
وزقزقةِ العَصافير، وغناءِ البَلابل، ونَوْحِ الحمام، وصَرِير الجنادِب
وكانت الأشجارُ تروى من مياه الجداول، وتأخذُ من الأرضِ الطيّبةِ فَتَطُولُ، وتتفرّعُ غُصونُها وفرُوعُهَا
وتَزْدَادُ أَوراقُها كلَّ يَوْمٍ خُضْرَةً ونَضْرَةً، وتكثر ثمراتُها الطيّبة
وكانت تلكَ الأشجارُ مَسكَناً آمِناً لأعشاشِ الطُّيورِ المُقيمةِ
وأماكنَ زِيارةٍ عابِرَةٍ للطّيور المُهاجِرَة
وكانَ في الحَشراتِ النّافِعَةِ التي تَأْلَفُ تلكَ الغابةَ في السَّهْلِ
الأَخْضَرِ دُوْدَةُ القَزّ، أو دُوْدَةُ الحَرِير
ودُوْدَةُ القزّ دودةٌ من أكثرِ الحَشَراتِ فائدةً للإِنسانِ، وهي تَغْزِلُ من غُدَدٍ خاصَّةٍ فيها مادّةً لَزِجَةً تغزلُ منها خيُوطاً
يأخُذُها الإنسانُ، ويُصَنِّعُها ويُهَيّؤها لتصبحَ خيُوطاً صالحةً للنَّسِيج الحريري
وهُوَ مِنْ أحْلى أَنواعِ النَّسِيْجِ وأكْثرها جمالاً
هذه الدُّودةُ النَّافعةُ المفيدة ـ دودةُ القزّ ـ تحتاجُ إلى غذاءٍ خاصٍّ؛ فهي تُحِبّ ورقَ التُّوت: تأكلُهُ وتعيشُ به
وتتمكَّنُ بذلكَ من صِنَاعَةِ خيُوطِهَا الحريريّة القَوِيَّةِ النَّاعِمَة
اقتربتْ دُوْدَةُ القَزّ، أو دودةُ الحَرِير، التي كانت تعيشُ في تلكَ الغابةِ من شجرةِ تُوتٍ كانتْ قريبةً إليها
ولمّا تجاوَزتْ الجِذع، في صُعودها، وصارتْ عندَ الأغصانِ والفُروعِ وجدتْ أمامَها أشواكاً مُدَبّبةً
وحاولتْ أَن تَمُرَّ فوقها فَوخَزَتْها وَخْزاً مُؤلماً
ثم حَاوَلَت المُروْرَ مِن جَانِبها فلم تَسْتَطِعْ لكثرةِ الشَّوْك وقُوّتهِ..
وأصدرت هذه الشجرةُ من أشجار التوتِ أوامِرَها إلى أَشْوَاكها لمنعِ دُودة القَزّ من العُبورِ
وأصدرَتْ أَوامِرَ أُخْرى إلى أَوْرَاقِها لتكونَ قاسيةً عليها، مُرّةً، ومُزعِجَةً لآكِلها
لقد أَظْهَرتْ هذِه الشجرةُ بخْلاً شديداً، وامتنعتْ من إطعامِ دُوْدَةِ القَز
التي نزلتْ آسفةً حزينةً
حَزِنَتْ دودةُ القَزّ لموقف هذه الشجرة منها، وأصابَها جوعٌ شديدٌ
زحفتْ الدُّودةُ على أرضِ الغابَةِ فوجدتْ شجرةَ توتٍ أُخْرى. قالت في سِرّها: سأجرِّبُ حَظّي مع هذه الشّجرةِ
عسى أن تكونَ كريمةً فتسْمَحَ لي بأنْ أتناوَلَ طعامي من بَعْضِ أوراقها... ونفّذت فكرتَها، فصعدتْ شجرةَ
التُّوتِ الأُخرى... فرحّبت هذه الشجرةُ بها، وفسَحَتْ لها في أغصانها وفروعها
وقدّمت لها من أوراقِهَا مائدةً شهيّة
شبعتْ دُودَةُ القَزّ فحمدت اللهَ تعالى، وشكرتْ لشجرةِ التُّوت الأَبيض حُسْنَ ضيافتها
قَبْلَ أنْ تغادِرَ دُوْدَةُ القَزّ شجرةَ التُّوتِ الأبيضِ الكريمةِ استأذنَتْ منها أن تحلّ ضيفةً عليها كُلّما جاعَتْ
قَبِلَت الشَجَرَةُ دونَ تَردُّدٍ، وقالت لها: تَسْتَطِيْعينَ أَن تحضري أَنْتِ وأَن تَدْعِي مَنْ تَشائِين مِنْ بَناتِ جِنْسِك
سأكونُ وأخَواتي وبناتِ جِنسي من التُّوتِ الأبيض في استقبالكنّ دائماً... الخَيْرُ عندنا كثيرٌ
وأنْتُنَّ مخلوقاتٌ نافِعَةٌ... فَلْنَتعَاوَنْ على طريقِ الخَيْر... وعَمَلِ الخَيْر
فرحت دودةُ القَزّ فَرحاً عظيماً، وأخبرتْ بَناتِ جنسِها في الغابةِ لِيَكُنَّ ضيفاتٍ على أوراقٍ شَجرِ التُّوت الأبيض
التي صارت تُعْرَفُ باسم: شجرة توت القَزّ احتراماً لكرمها. وضِيَافَتِهَا الدائمةِ لِدُودة القزّ صَانعة الحريرِ الرائعة
أمّا شَجَرَةُ التُّوْتِ البَخِيلةُ ذاتُ الأَشْواكِ. والوَرقِ القاسِي فقد نَبَذَتْها أشجارُ التَّوت الأُخْرى
وأشجارٌ أُخرى كانت على عِلمٍ بما جَرى لِدُودَةِ القَزّ..
وصَل الخَبَرُ إِلى شَجَرةِ تُوْتٍ عتيقةٍ، مُعَمَّرةٍ، هي أَقْدَمُ شجرةٍ من هذا النَّوع في الغابة
لم يُعْجِبْهَا ما صَنَعَتْهُ شَجَرةُ التُّوتِ البخيلة وقالت لها
أنتِ تنفعينَ للحمايةِ والوقايةِ والحراسَةِ... أَنت ذاتُ أشواكٍ نافذةٍ وفُروعٍ قوية وأَغصان متشابكة
وأنتِ من اليوم شجرةُ تُوت العُلَّيْق، ومكانُكِ المُناسِبُ عند البوّابات وعند أسوارِ البَساتينِ
وجُدرانِ الحَدائقِ والحُقُولِ... تنفعينَ الجميع إذْ تكونين سِيَاجاً وحمايةً ووقايةً
والبارعُ القويّ من المخلوقات قد يستفيد من ثمرك أيضاً
أَثْنَتْ شَجرةُ التُّوت العتيقةُ على كرَم شجرةِ التُّوت الأَبيضِ التي صارتْ تُدْعى شجرةَ تُوت القَزّ
وشَكَرها ـ أَيْضاً ـ كُلُّ مَنْ في الحديقةِ من عالَمِ الحَيوانِ وعالَمِ النَّبات... وعَرَفُوا لها فَضْلَ استضافةِ دُوْدَةِ القَز
وهي استضافةٌ صارَتْ دائماً، ثابتةً، في كُلّ حديقةٍ وكلّ بُستانٍ، وحيثما وُجِدَتْ من أَنْحَاءِ الدُّنيا
وقامت بين شَجرةِ التّوت الأَبيضِ وبينَ دودةِ القَزّ علاقة صداقةٍ قوية، ومَودّة دائمة
وجَنى الناس من تلك الصّداقة، وذلك التَّعاونِ فائدةً عظيمةً