وكان اسمه عياشياً وكان أول الملوك بعد نوح عليه السلام ملك ما بين المشرق والمغرب.
قال أمين الإسلام الطبرسي في قوله تعالى : ( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ ) أي بسطنا يده في الأرض وملكناه حتى استولى عليها
قال تعالى في سورة الكهف :(( وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا القَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ))
وروي عن علي عليه السلام أنه قال: سخر الله له السحاب فحمله عليها ومد له في الأسباب وبسط له النور , فكان الليل والنهار عليه سواء , فهذا معنى تمكينه في الأرض.
( وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ) أي وأعطيناه من كل شيء علماً وقدرة وآلة يتسبب بها إلى إرادته. ( فَأَتْبَعَ سَبَباً ) أي فاتبع طريقاً وأخذ في سلوكه. ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ) أي آخر العمارة من جانب المغرب , وبلغ قوماً يكن وراءهم أحد إلى موضع غروب الشمس. (وَجَدَهَا تَغْرُبُ ) أي كأنها تغرب. ( عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) وإن كانت تغرب وراءها لأن الشمس لا تزايل الفلك فلا تدخل في عين الماء , ولكن لما بلغ ذلك الموضع ترائى له كأن الشمس تغرب في عين كما أن من كان في البحر يراها كأنها تغرب في الماء من كان في البر يراها كأنها تغرب في الأرض الملساء. والعين الحمئة ذات الحماة وهي الطين الأسود المنتن والحامية الحارة.
وعن كعب قال أجدها في التوراة تغرب في ماء وطين.
(علل الشرايع والأمالي) مسنداً إلى وهب قال: وجدت في بعض كتب الله تعالى أن ذا القرنين لما فرغ من عمل السد انطلق على وجهه , فبينما هو يسير بجنوده إذ مر على شيخ يصلي فوقف عليه بجنوده حتى انصرف من صلاته فقال له ذو القرنين كيف لم يرعك ما حضرك من جنودي ؟ قال كنت أناجي من هو أكثر جنوداً منك وأعز سلطاناً وأشد قوة , ولو صرفت وجهي إليك لم أبلغ حاجتي قبله فقال ذو القرنين هل لك في أن تنطلق معي فأواسيك بنفسي وأستعين بك على بعض أمري ؟ قال نعم إن ضمنت لي أربعة خصال : نعيما لا يزول وصحة لا سقم فيها وشباباً لا هرم فيه وحياة لا موت فيها , فقال له ذو القرنين وأي مخلوق يقدر على هذه الخصال ؟ فقال له الشيخ فإني مع من يقدر عليها ويملكها وإياك. ثم مر برجل عالم فقال لذي القرنين أخبرني عن شيئين منذ خلقهما الله عز وجل قائمين ؟ وعن شيئين مختلفين ؟ وعن شيئين جاريين ؟ وعن شيئين متباغضين.
فقال له ذو القرنين : أما الشيئان الجاريان فالشمس والقمر , وأما الشيئان المختلفان فالليل والنهار , وأما الشيئان المتباغضان فالموت والحياة.
فقال: انطلق فإنك عالم. فانطلق ذو القرنين يسير في البلاد حتى مر بشيخ يقلب جماجم الموتى فوقف عليه بجنوده فقال: له أخبرني أيها الشيخ لأي شيء تقلب هذه الجماجم ؟ فقال لأعرف الشريف من الوضيع والغني من الفقير فما عرفت واني لأقلبها منذ عشرين سنة فانطلق ذو القرنين وتركه , فقال: ما عنيت بهذا أحداً غيري.
فبينما هو يسير إذ وقع إلى الأمة العالمة من قوم موسى (ع) الذي يهدون بالحق وبه يعدلون فلما رآهم قال لهم أيها القوم أخبروني بخبركم , فإني قد درت الأرض شرقها وغربها وبرها وبحرها فلم ألق مثلكم فأخبروني ما بال قبور موتاكم على أبواب بيوتكم ؟ قالوا لئلا ينسى الموت ولا يخرج ذكره من قلوبنا. قال فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب ؟ قالوا ليس فينا لص ولا ظنين – أي متهم – وليس فينا إلا أمين قال فما بالكم ليس عليكم أمراء ؟ قالوا لا نتظالم. قال فما بالكم ليس بينكم حكام ؟ - يعني القضاة – قالوا لا نختصم. قال فما بالكم ليس فيكم ملوك ؟ قالوا لا نتكاثر. قال فما بالكم لا تتفاضلون ولا تتفاوتون ؟ قالوا من قبل إنا متواسون متراحمون. قال فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون ؟ قالوا من قبل إلفة قلوبنا , وصلاح ذات بيننا. قال فما بالكم لا تسبون ولا تقتلون ؟ قالوا من قبل إنا غلبنا طبايعنا – يعني بالعزم – ومسسنا أنفسنا بالحكم. قال فما بالكم كلمتكم واحدة وطريقتكم مستقيمة ؟ قالوا من قبل إنا لا نتكاذب ولا نتخادع ولا يغتاب بعضنا بعضاً قال فاخبروني لم ليس فيكم مسكين ولا فقير ؟ قالوا من قبل إنا نقسم بالسوية. قال فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ ؟ قالوا من قبل الذل والتواضع. قال فلم جعلكم الله أطول الناس أعماراً ؟ قالوا من قبل انا نتعاطى الحق ونحكم بالعدل. قال فما بالكم لا تقحطون ؟ قالوا من قبل انا لا نغفل عن الإستغفار. قال فما بالكم لا تحزنون ؟ قالوا من قبل انا وطنا أنفسنا على البلاء فعزينا أنفسنا. قال فما بالكم لا تصيبكم الآفات ؟ قالوا من قبل انا لا نتوكل على غير الله عز وجل ولا نستمطر بالأنواء والنجوم. قال: فحدثوني أيها القوم هكذا وجدتم آباءكم يفعلون ؟ قالوا : وجدنا آباءنا يرحمون مسكينهم ويواسون فقيرهم ويعفون عمن ظلمهم ويحسنون إلى من أساء إليهم ويستغفرون لمسيئهم ويصلون أرحامهم ويؤدون أمانتهم ويصدقون ولا يكذبون فأصلح الله لهم بذلك أمرهم. فأقام عندهم ذو القرنين حتى قبض وله خمسمائة عام.
(تفسير علي بن إبراهيم) بإسناده إلى الصادق عليه السلام قال: ان ذا القرنين بعثه الله إلى قومه فضرب على قرنه الأيمن , فأماته الله خمسمائة عام. ثم بعثه الله إليهم بعد ذلك فضرب على قرنه الأيسر , فأماته الله خمسمائة عام. ثم بعثه الله إليهم بعد ذلك فملّكه مشارق الأرض ومغاربها.
وسئل أمير المؤمنين عليه السلام عن ذي القرنين أنبياً كان أم ملكاً ؟ فقال: لا ملكاً ولا نبياً بل عبداً أحب الله فأحبه الله , ونصح لله فنصح له , فبعثه إلى قومه فضربوه على قرنه الأيمن , فغاب عنهم , ثم بعثه الثانية فضربوه على قرنه الأيسر , فغاب عنهم , ثم بعثه الثالثة , فمكّن الله له في الأرض , وفيكم مثله. يعني نفسه.
وكان ذو القرنين إذا مر بقرية زئر فيها كما يزئر الأسد المغضب , فينبعث في القرية ظلمات ورعد وبرق وصواعق يهلك من خالفه.
وقيل له: إن لله في أرضه عين يقال لها عين الحياة لا يشرب منها ذو روح إلا لم يمت حتى الصيحة , فدعا ذو القرنين الخضر وكان أفضل أصحابه عنده ودعا ثلاثمائة وستين رجلا ودفع إلى كل واحد منهم سمكة وقال لهم اذهبوا إلى موضع كذا وكذا فإن هناك ثلاثمائة وستين عيناً , فيغسل كل واحد سمكته في عين غير عين صاحبه. فذهبوا يغسلون وقعد الخضر يغسل فانسابت منه السمكة في العين وبقي الخضر متعجباً مما رأى وقال في نفسه : ما أقول لذي القرنين ؟ ثم نزع ثيابه يطلب السمكة , فشرب من مائها واغتمس فيه ولم يقدر على السمكة , فرجعوا إلى ذي القرنين , فأمر ذو القرنين بقبض السمك من أصحابه. فلما انتهوا إلى الخضر لم يجدوا معه , فدعاه وقال له ما حال السمكة ؟ فأخبره الخبر , فقال له ماذا صنعت ؟ قال اغتمست فيها فجعلت أغوص وأطلبها فلم أجدها , قال فشربت من مائها ؟ قال نعم. قال فطلب ذو القرنين العين فلم يجدها , فقال للخضر : كنت أنت صاحبها.
(الأمالي) عن الصادق عليه السلام قال: ان ذا القرنين لما انتهى إلى السد جاوزه فدخل في الظلمات , فإذا هو بملك قائم على جبل طوله خمسمائة ذراع , فقال له الملك: يا ذا القرنين أما كان خلفك مسلك ؟ فقال له ذو القرنين من أنت ؟ قال أنا ملك من ملائكة الرحمان موكل بهذا الجبل فليس من جبل خلقه الله عز وجل إلا وله عرق إلى هذا الجبل فإذا أراد الله عز وجل أن يزلزل مدينة أوحى إليّ فزلزلتها.
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى لم يبعث أنبياءاً ملوكاً في الأرض إلا أربعة بعد نوح عليه السلام : ذو القرنين واسمه عياش وداود وسليمان ويوسف , وأما عياش فملك ما بين المشرق والمغرب , وأما داود فملك ما بين الشامات إلى بلاد الاصطخر , وكذلك كان ملك سليمان , وأما يوسف فملك مصر وبراريها لم يجاوزها إلى غيرها.
قال الصدوق طاب ثراه : جاء في الخبر هكذا , والصحيح الذي أعتقده في ذي القرنين أنه لم يكن نبياً صالحاً أحب الله فأحبه الله.
قال أمير المؤمنين عليه السلام : وفيكم مثله. وذو القرنين ملك مبعوث وليس برسول ولا نبي , كما كان طالوت ملكاً.
وعني أبي عبدالله عليه السلام قال: ملك الأرض كلها أربعة : مؤمنا وكافران فأما المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين عليهما السلام , والكافران نمرود وبخت نصر , واسم ذي القرنين عبدالله بن ضحاك بن معبد.
(علل الشرايع) بإسناده إلى الباقر عليه السلام قال: أول اثنين تصافحا على وجه الأرض ذو القرنين وإبراهيم الخليل عليه السلام استقبله إبراهيم فصافحه , وأول شجرة نبتت على وجه الأرض النخلة.
(بصائر الدرجات) عن أبي جعفر عليه السلام قال: ان ذا القرنين قد خير بين السحابين , واختار الذلول , وذخر لصاحبكم الصعب. قال: قلت وما الصعب ؟ قال كان من سحاب فيه رعد وصاعقة وبرق , فصاحبكم يركبه , أما أنه سيركب السحاب ويرقى في الأسباب أسباب السماوات السبع والأرضين السبع خمس عوامر واثنتان خراب.
قال السيد نعمة الله الجزائري رحمه الله : المراد بصاحبكم هو القائم عليه السلام.
(إكمال الدين) بإسناده إلى عبدالله بن سليمان وكان قارئاً للكتب قال: قرأت في بعض كتب الله عز وجل أن ذا القرنين كان رجلا من أهل الإسكندرية وأمه عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره يقال له إسكندر وكان له أدب وخلق وعفة من وقت ما كان فيه غلاماً إلى أن بلغ رجلا وكان رأى في المنام كأنه دنا من الشمس حتى أخذ بقرنيها وشرقها وغربها , فلما قص رؤياه على قومه سموه ذا القرنين. هذه الرؤيا بعدت همته وعلا صوته وعز في قومه وكان أول ما أجمع عليه أمره أن أسلم لله ودعا قومه إلى الإسلام , فأسلموا هيبة له , ثم أمرهم أن يبنوا له مسجداً , فأجابوه إلى ذلك , فأمر أن يجعل طوله أربعمائة ذراع وعرض حائطه اثنين وعشرين ذراعاً وعلوه إلى السماء مائة ذراع , فقالوا له يا ذا القرنين كيف لك بخشب يبلغ ما بين الحائطين قال فاكبسوه بالتراب حتى يستوي الكبس مع حيطان المسجد فإذا فرغتم من ذلك فرضتم على كل رجل من المؤمنين على قدره من الذهب والفضة ثم قطعتموه مثل قلامة الظفر وخلطتموه مع ذلك الكبس وعملتم له خشباً من نحاس وصفائح تذيبون ذلك وأنتم متمكنون من العمل كيف شئتم على أرض مستوية فإذا فرغتم من ذلك دعوتم المساكين لنقل ذلك التراب فيسارعون فيه من أجل ما فيه من الذهب والفضة. فبنوا المسجد وأخرج المساكين ذلك التراب وقد استقل السقف بما فيه واستغنى المساكين فجندهم أربعة أجناد في جند عشرة آلاف ثم نشرهم في البلاد وحدّث نفسه بالسير فاجتمع إليه قومه فقالوا ننشدك بالله لا تؤثر علينا بنفسك غيرنا فنحن أحق برؤيتك وفينا كان مسقط رأسك وهذه أموالنا وأنفسنا , فأنت الحاكم فيها وهذه أمك عجوز كبيرة وهي أعظم خلق الله عليك حقاً فلا تخالفها , فقال ان القول لقولكم وان الرأي لرأيكم ولكنني بمنزلة المأخوذ بقلبه وسمعه وبصره ويقاد ويدفع من خلفه لا يدري أين يؤخذ به, ولكن هلمو معشر قومي فادخلوا هذا المسجد واسلموا على آخركم ولا تخالفوا علي فتهلكوا , ثم دعا دهقان الإسكندرية فقال هل: أعمر مسجدي وعز عني أمي , فلما رأى الدهقان جزع أمه وطول بكائها احتال ليعزيها بما أصاب الناس قبلها وبعدها من المصائب والبلاء فيصنع عيداً عظيماً , ثم أذن مؤذنه أيها الناس ان الدهقان يدعوكم أن تحضروا يوم كذا وكذا , فلما كان ذلك اليوم أذن مؤذنه أسرعوا واحذروا أن يحضر هذا العيد إلا رجل قد عري من البلاء والمصائب فاحتبس الناس كلهم , فقالوا ليس فينا أحد عرى من البلاء ما منا أحد إلا وقد أصيب ببلاء أو بموت حميم , فسمعت أم ذي القرنين فأعجبها ولم تدر ما أراد الدهقان , ثم ان الدهقان أمر منادياً ينادي فقال: يا أيها الناس ان الدهقان قد أمركم أن تحضروا يوم كذا وكذا ولا يحضر إلا رجل قد ابتلي وأصيب وفجع ولا يحضره أحد عري من البلاء فإنه لا خير فيمن لا يصيبه البلاء , فلما فعل ذلك قال الناس هذا رجل قد بخل , ثم ندم واستحى فتدارك أمره ومحى عيبه.
فلما اجتمعوا خطبهم و ثم قال: اني لم أجمعكم لما دعوتكم له ولكني جمعتكم لأكلمكم في ذي القرنين وفيما فجعنا به من فقده وفراقه فاذكروا آدم أن الله خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وأسكنه جنته ثم ابتلاه بأن عظم بليته وهو الخروج من الجنة , ثم ابتلى إبراهيم بالحريق وابتلى ابنه بالذبح , ويعقوب بالحزن والبكاء ويوسف بالرق وأيوب بالسقم ويحيى بالذبح وزكريا بالقتل وعيسى بالأمر , وخلقاً من خلق الله كثيراً لا يحصيهم إلا الله عز وجل فلما فرغ من هذا الكلام قال لهم : انطلقوا فعزوا أم الإسكندر لننظر كيف صبرها فإنها أعظم مصيبة في ابنها , فلما دخلوا عليها قالوا لها: هل حضرت الجمع اليوم وسمعت الكلام ؟ قالت لهم: ما غاب علي من أمركم شيء وما كان فيكم أحد أعظم مصيبة بالإسكندر مني ولقد صبَّرني الله وأرضاني وربط على قلبي , فلما رأوا حسن عزائها انصرفوا عنها. وانطلق ذو القرنين يسير على وجهه حتى أمعن في البلاد يؤم المغرب وجنوده يومئذ المساكين , فأوحى الله جل جلاله إليه: يا ذا القرنين إنك حجتي على جميع الخلائق ما بين الخافقين من مطلع الشمس إلى مغربها , وهذا تأويل رؤياك. فقال ذو القرنين: إلهي إنك ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره غيرك فاخبرني عن هذ الأمة بأية قوم أكاثرهم وبأي عدد أغلبهم وبأية حيلة أكيدهم وبأي لسان أكلمهم وكيف لي بأن أعرف لغاتهم ؟ فأوحى الله تعالى إليه : أشرح لك صدرك فتسمع كل شيء وأشرح لك فهمك فتفقه كل شيء وأحفظ عليك فلا يعزب منك شيء وأشد ظهرك فلا يهولك شيء وأسخر لك النور والظلمة أجعلهما جندين من جنودك النور يهديك والظلمة تحوطك وتحوش عليك الأمم من ورائك فانطلق ذو القرنين برسالة ربه عز وجل , فمر بمغرب الشمس فلا يمر بأمة من الأمم إلا دعاهم إلى الله عز وجل فإن أجابوه قبل منهم وإن لم يجيبوه أغشاهم الظلمة , فأظلمت مدنهم وقراهم وحصونهم وبيوتهم وأغشت أبصارهم ودخلت على أفواههم وآنافهم , فلا يزالون فيها متحيرين حتى يستجيبوا لله عز وجل.
( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً ) الآية التي ذكرها الله عز وجل في كتابه , ففعل بهم مع غيرهم حتى فرغ مما بينه وبين المغرب.
ثم مشى على الظلمة ثمانية أيام وثمان ليال وأصحابه ينظرونه حتى انتهى إلى الجبل الذي هو محيط بالأرض كلها , فإذا بملك من الملائكة قابض على الجبل وهو يسبح الله , فخر ذو القرنين ساجداً , فلما رفع رأسه , قال له الملك: كيف قويت يابن آدم على أن تبلغ هذا الموضع ولم يبلغه أحد من ولد آدم قبلك ؟ قال ذو القرنين: قوَّاني على ذلك الذي قوَّاك على قبض هذا الجبل وهو محيط بالأرض كلها قال له الملك صدقت , لولا هذا الجبل لانكفأت الأرض بأهلها وليس على وجه الأرض جبل أعظم منه وهو أول جبل أسسه الله عز وجل , فرأسه ملصق بالسماء الدنيا وأسفله بالأرض السابعة السفلى وهو محيط به كالحلقة , وليس على وجه الأرض مدينة إلا ولها عرق إلى هذا الجبل , فإذا أراد الله عز وجل أن يزلزل مدينة فأوحى الله إليَّ فحركت العرق الذي يليها فزلزلتها.
ثم رجع ذو القرنين إلى أصحابه , ثم عطف بهم نحو المشرق يستقري ما بينه وبين المشرق من الأمم , فيفعل بهم ما فعل بأمم المغرب , حتى إذا فرق ما بين المشرق والمغرب عطف نحو الروم الذي ذكره الله عز وجل في كتابه , فإذا هو بأمة ( لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ) وإذا ما بينه وبين الروم مشحون من أمة يقال لها ياجوج وماجوج أشباه البهائم يأكلون ويشربون ويتوالدون وهم ذكور وإناث وفيهم مشابة من الناس الوجوه والأجساد والخلقة ولكنهم قد نقصوا في الأبدان نقصاً شديداً وهم في طول الغلمان لا يتجاوزون خمسة أشبار وهم على مقدار واحد في الخلق والصور عراة حفاة لا يغزلون ولا يلبسون ولا يحتذون , عليهم وبر كوبر الإبل يواريهم ويسترهم من الحر والبرد ولكل واحد منهم أذنان أحدهما ذات شعر والأخرى ذات وبر ظاهرهما وباطنهما ولهم مخالب في موضع الأظفار وأضراس وأنياب كالسباع , وإذا نام أحدهم افترش إحدى أذنيه والتحف الأخرى فتسعه لحافاً , وهم يرزقون نون البحر كل عام يقذفه عليهم السحاب , فيعيشون به ويستمطرون في أيامه كما يستمطر الناس المطر في أيامه , فإذا قذفوا به أخصبوا وسمنوا وتوالدوا وأكثروا فأكلوا منه إلى الحول المقبل ولا يأكلون منه شيئاً غيره وإذا أخطأهم النون جاعوا وساحوا في البلاد فلا يدعون شيئاً أتوا عليه إلا أفسدوه وأكلوه وهم أشد فساداً من الجراد والآفات وإذا أقبلوا من أرض إلى أرض جلا أهلها عنها وليس يغلبون ولا يدفعون حتى لا يجد أحد من خلق الله موضعاً لقدمه ولا يستطيع أحد أن يدنو منهم لنجاستهم وقذارتهم فبذلك غلبوا وإذا أقبلوا إلى الأرض يسمع حسهم من مسيرة مائة فرسخ لكثرتهم , كما يسمع حس الريح البعيدة ولهم همهمة إذا وقعوا في البلاد كهمهمة النحل , إلا أنه أشد وأعلى وإذا أقبلوا إلى الأرض حاشوا وحوشها وسباعها حتى لا يبقى فيها شيء , لأنهم يملؤون ما بين أقطارها ولا يتخلف وراءهم من ساكن الأرض شيء فيه روح إلا اجتلبوه وليس فيهم أحد إلا وعرف متى يموت وذلك من قبل أنه لا يموت منهم ذكر حتى يولد له ألف ولد ولا تموت أنثى حتى تلد ألف ولد , فإذا ولدوا الألف , برزوا للموت وتركوا طلب المعيشة. ثم أنهم أجفلوا في زمان ذي القرنين يدورون أرضاً أرضاً وأمة أمة وإذا توجهوا لوجه لم يعدلوا عنه أبداً.
فلما أحست تلك الأمم بهم وسمعوا همهمتهم استغاثوا بذي القرنين وهو نازل في ناحيتهم , قالوا له فقد بلغنا ما آتاك الله من الملك والسلطان وما أيَّدك به من الجنود ومن النور والظلمة , وإنا جيران ياجوج وماجوج وليس بيننا وبينهم سوى هذه الجبال وليس لهم إلينا طريق إلا من هذين الجبلين لو مالوا علينا أجلونا من بلادنا ويأكلون ويفرسون الدواب والوحوش كما يفرسها السباع ويأكلون حشرات الأرض كلها من الحيات والعقارب وكل ذي روح ولا نشك أنهم يملؤون الأرض ويجلون أهلها منها , ونحن نخشى كل حين أن يطلع علينا أوايلهم من هذين الجبلين , وقد أتاك الحيلة والقوة ( قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ.... ) الآية.
ثم انه دلهم على معدن الحديد والنحاس فضرب لهم في جبلين حتى فتقهما واستخرج منهما معدنين من الحديد والنحاس قالوا: فبأي قوة نقطع هذا الحديد والنحاس ؟ فاستخرج لهم من تحت الأرض معدناً آخر يقال له السامور وهو أشد شيء بياضاً وليس شيء منه يوضع على شيء إلا ذاب تحته , فصنع لهم منه أداة يعملون بها.
وبه قطع سليمان بن داود أساطين بيت المقدس , وصخوره جاءت بها الشياطين من تلك المعادن , فجمعوا من ذلك ما اكتفوا به. فأوقدوا على الحديد النار , حتى صنعوا منه زبراً مثل الصخور فجعل حجارته من حديد ثم أذاب النحاس فجعله كالطين لتلك الحجارة ثم بنى وقاس ما بين الجبلين فوجده ثلاثة أميال , فحفروا له أساساً حتى كاد يبلغ الماء وجعل عرضه ميلا وجعل حشوه زبر الحديد وأذاب النحاس فجعله خلال الحديد فجعل طبقة من نحاس وأخرى من حديد ثم ساوى الردم بطول الصدفين فصار كأنه برد حبرة من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد.
فيأجوج يأتونه في كل سنة مرة وذلك أنهم يسيحون في بلادهم , حتى إذا وقعوا إلى الردم حبسهم , فرجعوا يسيحون في بلادهم , فلا يزالون كذلك حتى تقرب الساعة , فإذا جاء أشراطها وهو قيام القائم عجل الله فرجه فتحه الله عز وجل لهم.
فلما فرغ ذو القرنين من عمل السد انطلق على وجهه , فبينما هو يسير إذ وقع على الأمة العالمة الذين منهم قوم موسى ( وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) فأقام عندهم حتى قبض ولم يكن له فيهم عمر وكان قد بلغ السن فأدركه الكبر وكان عدة ما سار في البلاد من يوم بعثه الله عز وجل إلى يوم قبض خمسمائة عام.
(قصص الأنبياء) للراوندي بإسناده إلى أبي جعفر عليه السلام قال: حج ذو القرنين في ستمائة ألف فارس , فلما دخل الحرم شيعه بعض أصحابه إلى البيت , فلما انصرف قال: رأيت رجلا ما رأيت أكثر نوراً منه , قالوا: ذاك خليل الرحمان صلوات الله عليه , قال: أسرجوا فأسرجوا ستمائة ألف دابة في مقدار ما يسرج دابة واحدة , ثم قال: لا , بل نمشي إلى خليل الرحمان. فمشى ومشى معه أصحابه حتى التقيا. قال إبراهيم عليه السلام: بم قطعت الدهر ؟ قال: بإحدى عشر كلمة : سبحان من هو باق لا يفنى , سبحان من هو عالم لا ينسى , سبحان من هو حافظ لا يسقط , سبحان من هو بصير لا يرتاب , سبحان من هو قيوم لا ينام , سبحان من هو ملك لا يرام , سبحان من هو عزيز لا يضام , سبحان من هو محتجب لا يرى , سبحان من هو واسع لا يتكلف , سبحان من هو قائم لا يلهو , سبحان من هو دائم لا يسهو.
(العياشي) عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: سئل عن ذي القرنين ؟ قال: كان عبداً صالحاً واسمه عياش اختاره الله وابتعثه إلى قرن من القرون الأولى في ناحية المغرب وذلك بعد طوفان نوح عليه السلام فضربوه على قرنه الأيمن فمات منها. ثم أحياه الله تعالى بعد مائة عام ثم بعثه إلى قرن من القرون الأولى في ناحية المشرق فضربوه ضربة على قرنه الأيسر فمات منها. ثم أحياه الله تعالى بعد مائة عام وعوضه من الضربتين اللتين على رأسه قرنين في موضع الضربتين أجوفين , وجعل عز ملكه وآية نبوته في قرنه , ثم رفعه الله إلى السماء الدنيا فكشط الأرض كلها حتى أبصره ما بين المشرق والمغرب وآتاه الله من كل شيء علماً وأيده في قرنيه بكسف من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ثم هبط إلى الأرض وأوحى إليه: أن سر في ناحية غرب الأرض وشرقها فقد طويت لك البلاد وذللت لك العباد فأرهبتهم منك فسار ذو القرنين إلى ناحية المغرب , فكان إذا مرَّ بقرية زأر فيها كما يزأر الأسد المغضب , فبعث من قرنيه ظلمات ورعد وبرق وصواعق تهلك من يخالفه , فدان له أهل المشرق والمغرب , فانتهى مع الشمس إلى العين الحامية فوجدها تغرب فيها ومعها سبعون ألف ملك يجرونها بسلاسل الحديد والكلاليب يجرونها من البحر في قطر الأرض الأيمن كما تجر السفينة على ظهر الماء.
فلما ملك ما بين المشرق والمغرب كان له خليل من الملائكة يقال له: رفائيل ينزل إليه فيحدثه ويناجيه , فقال له ذو القرنين أين عبادة أهل السماء من أهل الأرض ؟ فقال ما في السماوات موضع قدم إلا وعليه ملك قائم لا يقعد أبداً أو راكع لا يسجد أبداً أو ساجد لا يرفع رأسه أبداً. فبكى ذو القرنين وقال: أحب أن أعيش حتى أبلغ من عبادة ربي ما هو أهله ؟ قال رفائيل: يا ذا القرنين إن لله في الأرض عيناً تدعى عين الحياة , من شرب منها لم يمت حتى يكون هو يسأل الموت , فإن ظفرت بها تعش ما شئت , قال: وأين تلك العين وهل تعرفها ؟ قال: لا , غير إنا نتحدث في السماء: إن لله في الأرض ظلمة لم يطأها إنس ولا جان. فقال ذو القرنين: وأين تلك الظلمة ؟ قال: ما أدري , ثم صعد رفائيل , فدخل ذو القرنين حزن طويل من قول رفائيل ومما أخبره عن العين والظلمة ولم يخبره بعلم ينتفع به منهما , فجمع ذو القرنين فقهاء أهل مملكته وعلماءهم.
فلما اجتمعوا عنده قال لهم : هل وجدتم فيما قرأتم من كتب الله أنّ لله عيناً تدعى عين الحياة من شرب منها لم يمت ؟ قالوا: لا , قال فهل وجدتم أنّ لله في الأرض ظلمة لم يطأها إنس ولا جان قالوا: لا. فحزن ذو القرنين وبكى إذ لم يخبر عن العين والظلمة بما يحب وكان فيمن حضره غلام من الغلمان من أولاد الأنبياء , فقال له : إنَّ علم ما تريد عندي , ففرح ذو القرنين , فقال الغلام : إني وجدت في كتاب آدم الذي كتب يوم سمي ما في الأرض من عين أو شجر فوجدت فيه: أنّ لله عيناً تدعى عين الحياة بظلمة لم يطأها إنس ولا جان , ففرح ذو القرنين وقال له الغلام : إنها على قرن الشمس – يعني مطلعها – ففرح ذو القرنين وبعث إلى أهل مملكته فجمع أشرافهم وعلمائهم فاجتمع إليه ألف حكيم وعالم.
فلما اجتمعوا تهيؤا للمسير , فسار يريد مطلع الشمس يخوض البحار ويقطع الجبال , فسار اثني عشر سنة حتى انتهى إلى طرف الظلمة فإذا هي ليست بظلمة ليل ولا دخان , فنزل بطرفها وعسكر عليها وجمع أهل الفضل من عسكره فقال: اني أريد أن أسلك هذه الظلمة , فقالوا: إنك تطلب أمراً ما طلبه أحد قبلك من الأنبياء والمرسلين ولا من الملوك , قال: انه لا بد لي من طلبها. قالوا إنا نعلم أنك إن سلكتها ظفرت بحاجتك ولكنا نخاف هلاكك. قال: ولا بد من أن أسلكها , ثم قال: أخبروني بأبصر الدواب ؟ قالوا الخيل الإناث فأصاب ستة آلاف فرس في عسكره , فانتخب من أهل العلم ستة آلاف رجل , فدفع إلى كل رجل فرساً , وكان الخضر على مقدمته في ألفي فارس , فأمرهم أن يدخلوا الظلمة , وسار ذو القرنين في أربعة آلاف وأمر أهل عسكره أن يلزموا معسكره اثني عشر سنة فإن رجع هو إليهم وإلا لحقوا ببلادهم , فقال الخضر: أيها الملك إنا نسلك في الظلمة لا يرى بعضنا بعضاً كيف نصنع بالضلال إذا أصابنا ؟ فأعطاه ذو القرنين خرزة حمراء كأنها مشعلة لها ضوء , فقال: خذ هذه الخرزة فإذا أصابكم الضلال فارم بها إلى الأرض فإنها تصيح فإذا صاحت رجع أهل الضلال إلى صوتها. فأخذها الخضر ومضى في الليلة وكان الخضر يرتحل وينزل ذو القرنين , فبينما الخضر يسير ذات يوم إذ عرض له واد في الظلمة فقال لأصحابه: قفوا في هذا الموضع ونزل عن فرسه فتناول الخرزة ورمى بها , فأبطأت عنه بالإجابة حتى خاف أن لا تجيبه , ثم أجابته , فخرج إلى صوتها فإذا هي العين وإذا ماؤها أشد بياضاً من اللبن وأصفى من الياقوت وأحلى من العسل , فشرب منها , ثم خلع ثيابه فاغتسل فيها ولبس ثيابه , ثم رمى بالخرزة نحو أصحابه فأجابته , فخرج إلى أصحابه وركب وأمرهم بالمسير فساروا , ومرَّ ذو القرنين بعده فأخطأ الوادي , فسلك تلك الظلمة أربعين يوماً , ثم خرجوا بضوء ليس بضوء نهار ولا شمس ولا قمر ولكنه نور , فخرجوا إلى أرض حمراء رملة , كانت حصاها اللؤلؤ , فإذا هو بقصر مبني على طول فرسخ , فجاء ذو القرنين إلى الباب فعسكر عليه , ثم توجه ( بوجهه – نسخة - ) وحده إلى القصر , فإذا طائر وإذا حديدة طويلة , قد وضع طرفاها على جانب القصر والطير أسود معلق في تلك الحديدة بين السماء والأرض كأنه الخطاف , فلما سمع خشخشة ذي القرنين قال: من هذا ؟ قال: أنا ذو القرنين. فقال: يا ذا القرنين لا تخف وأخبرني. قال: سل. قال: هل كثر في الأرض بنيان الآجر والجص ؟ قال: نعم. فانتفض الطير وامتلأ حتى ملأ الحديد ثلثها , فخاف منه ذو القرنين , فقال: لا تخف وأخبرني. قال: هل ارتكب الناس شهادة الزور في الأرض ؟ قال: نعم. فانتفض انتفاضة وانتفخ , فسد ما بين جداري القصر , فامتلأ ذو القرنين منه خوفاً فقال: لا تخف وأخبرني. قال: سل. قال: هل ترك الناس شهادة : لا إله إلا الله ؟ قال: لا. فانضم ثلثه , ثم قال يا ذا القرنين لا تخف وأخبرني. قال: سل. قال: هل ترك الناس الصلاة ؟ قال: لا. فانضم ثلث آخر , ثم قال: يا ذا القرنين لا تخف وأخبرني هل ترك الناس الغسل من الجنابة ؟ قال: لا. فانضم حتى عاد إلى الحالة الأولى فإذا هو بدرجة مدرجة إلى أعلى القصر , فقال الطير: أسلك هذه الدرجة , فسلكها وهو خائف حتى استوى على ظهرها فإذا هو بسطح ممدود مد البصر وإذا رجل شاب أبيض (مضيء) الوجه عليه ثياب بيض وإذا هو رافع رأسه إلى السماء ينظر إليها , واضع يده على فيه , فلما سمع خشخشة ذي القرنين قال: من هذا ؟ قال: أنا ذو القرنين قال يا ذا القرنين ما كفاك ما وراك حتى وصلت إلي ؟ قال ذو القرنين ما لي أراك واضعاً يدك على فيك ؟ قال أنا صاحب الصور وان الساعة قد اقتربت وأنا أنتظر أن أؤمر بالنفخ فأنفخ , ثم ضرب بيده فتناول حجراً فرمى به إلى ذي القرنين فقال خذها , فإن جاع جعت وإن شبع شبعت فارجع.
فرجع ذو القرنين بذلك الحجر حتى خرج إلى أصحابه , فأخبرهم بالطير وما سأله عنه وما قاله له وأخبرهم بصاحب السطح , ثم قال أعطاني هذا الحجر , فأخبروني بأمره , فوضع في إحدى الكفتين ووضع حجر مثله في الكفة الأخرى , رفع الميزان فإذا الحجر الذي جاء به أرجح بمثل الآخر , فوضعوا آخر فمال به حتى وضعوا ألف حجرة كلها مثله ثم رفع الميزان فمال بها ولم يشتمل به الألف حجر , فقالوا أيها الملك لا علم لنا بهذا الحجر , فقال له الخضر: اني أوتيت علم هذا الحجر , فقال ذو القرنين : أخبرنا به ؟ فتناول الخضر الميزان فوضع الحجر الذي جاء به ذو القرنين في كفة الميزان ثم وضع حجراً آخر في كفة أخرى ثم وضع كف تراب على حجر ذي القرنين يزيده ثقلاً ثم رفع الميزان فاعتدل , فقالوا: أيها الملك هذا أمر لم يبلغه علمنا وإنا لنعلم أن الخضر ليس بساحر فكيف هذا وقد وضعنا ألف حجر كلها مثله فمال بها وهذا قد اعتدل به وزاده تراباً , قال ذو القرنين : بيّن يا خضر لنا. قال الخضر أيها الملك إن أمر الله نافذ في عباده وسلطانه وإن الله ابتلى العالم بالعالم وانه ابتلاني بك وابتلاك بي. فقال ذو القرنين: يرحمك الله يا خضر إنما تقول ابتلاني بك حين جعلت أعلم مني وجعلت تحت يدي. أخبرني عن أمر هذا الحجر ؟ فقال الخضر: إن أمر هذا الحجر مَثَلٌ ضربه لك صاحب الصور يقول: إن مثل بني آدم مثل هذا الحجر الذي وضع , فوضع معه ألف فمال بها ثم إذا وضع عليه التراب شبع وعاد حجراً مثله. فيقول كذلك مثلك أعطاك من الملك ما أعطاك فلم ترض حتى طلبت أمراً لم يطلبه أبداً من كان قبلك ودخلت مدخلا لم يدخله إنس ولا جان , يقول كذلك ابن آدم لا يشبع حتى يحثى عليه التراب. فبكى ذو القرنين وقال: صدقت يا خضر لا جرم أني لا أطلب أثراً في البلاد بعد مسلكي هذا.
ثم انصرف راجعاً في الظلمة. فينما هم يسيرون إذ سمعوا خشخشة – أي صوتاً – تحت سنابك خيلهم فقالوا : أيها الملك ما هذا ؟ فقال خذوا منه فمن أخذ منه ندم ومن تركه ندم. فأخذ بعض وترك بعض. فلما خرجوا من الظلمة إذا هم بالزبرجد. فندم الآخذ والتارك. ورجع ذو القرنين إلى دومة الجندل وكان بها منزله. فلم يزل بها حتى قبضه الله إليه.
وكان صلى الله عليه وآله إذا حدث بهذا الحديث قال: رحم الله أخي ذا القرنين ما كان مخطئاً إذ سلك وطلب ما طلب ولو ظفر بوادي الزبرجد في ذهابه لما ترك فيه شيئاً إلا أخرجه للناس , لأنه كان راغباً ولكنه ظفر به بعد ما رجع فقد زهد.
وفيه عن أبي عبدالله عليه السلام قال: إنّ ذا القرنين عمل صندوقاً من قوارير ثم حمل في مسيره ما شاء الله , ثم ركب البحر , فلما انتهى إلى موضع قال لأصحابه: أدلوني , فإذا حركت الحبل فأخرجوني فإن لم أحرك الحبل فأرسلوني إلى آخره فأرسلوه في البحر وأرسلوا الحبل مسيرة أربعين يوماً فإذا ضارب يضرب جنب الصندوق ويقول يا ذا القرنين أين تريد ؟ قال أريد أن أنظر إلى ملك ربي في البحر كما رأيته في البر ؟ فقال يا ذا القرنين إنّ هذا الموضع الذي أنت فيه مرَّ فيه نوح زمان الطوفان , فسقط منه قدوم فهو يهوي في قعر البحر إلى الساعة لم يبلغ قعره , فلما سمع ذلك ذو القرنين حرك الحبل وخرج.
(العياشي) عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: تغرب الشمس في عين حمئة في بحر , دون المدينة التي مما يلي المغرب يعني جابلقا.
قال الرازي : اختلف الناس في أن ذا القرنين من هو ؟ وذكروا أقوالاً :
القول الأول : انه الإسكندر بن فليقوس اليوناني قالوا والدليل عليه أن القرآن دل على أن الرجل المسمى بذي القرنين بلغ ملكه المشرق والمغرب ومثل ذلك الملك البسيط لا شك انه على خلاف العادة وما كان كذلك وجب أن يبقى ذكره مخلداً على وجه الأرض وأن لا يبقى خفياً مستتراً والملك الذي اشتهر في كتب التواريخ: أنه بلغ ملكه إلى هذا القدر ليس إلا الإسكندر وذلك أنه مات أبوه , جمع ملك الروم بعد أن كانت طوائف , ثم حصد ملوك المغرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر , ثم عاد إلى مصر وبنى الإسكندرية باسم نفسه , ثم دخل الشام وقهر بني إسرائيل , ثم انعطف إلى العراق ودان له أهلها , ثم توجه إلى دارا وهزمه مرات إلى أن قتله واستولى الإسكندر على ملوك الفرس وقصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بسهرورد (شهرزور – خ ل ) ومات بها. فلما ثبت بالقرآن أنّ ذا القرنين ملك الأرض كلها وثبت بعلم التواريخ انّ الذي هذا شأنه ما كان إلا الإسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الإسكندر ابن فليقوس اليوناني.
ثم ذكروا في تسمية ذي القرنين بهذا الاسم وجوهاً :
الأول : أنه لقب به لأنه بلغ قرني الشمس يعني مشرقها ومغربها.
الثاني : ان الفرس قالوا ان دارا الأكبر كان تزوج بنت فيلقوس , فلما قرب منها وجد رائحة منكرة فردها على أبيها وكانت قد حملت منه بالإسكندر فولدت الإسكندر بعد عودها إلى أبيها (فيلقس – خ ل ) فبقى الإسكندر عند فيلقس وأظهر أنه ابنه وهو في الحقيقة ابن دارا الأكبر , قالوا : والديل على ذلك أن الإسكندر لما أدرك دارا ابن دارا وبه رمق , وضع رأسه في حجره وقال لدارا : يا أخي أخبرني عمن فعل هذا لأنتقم منه لك ؟ فهذا ما قالته الفرس. قالوا فعلى هذا التقدير فالإسكندر دارا الأكبر وأمه بنت فيلقس , فهذا إنما تولد من أصلين مختلفين الفرس والروم وهذا ما قاله الفرس وإنما ذكروه لأنهم أرادوا أن يجعلوه من نسل ملوك العجم , وهو في الحقيقة كذلك , وإنما قال الإسكندر يا أخي , على سبيل التواضع وإكرام دارا بذلك الخطاب.
والقول الثاني : قول أبي الريحان البيروني المنجم في كتابه الذي سماه : بالآثار الباقية من القرون الخالية.
قيل: أن ذا القرنين هو أبو كرب شمر بن عمير بن افريقش الحميري وهو الذي بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وهو الذي افتخر به الشعراء من حمير , ثم قال أبوالريحان : ويشبه أن يكون هذا القول أقرب , لأن الأذواء كانوا من اليمن وهم الذين لا تخلوا أساميهم من ذي , كذي المنار وذي قواس وذي النون.
القول الثالث : أنه كان عبداً صالحاً ملَّكه الله الأرض وأعطاه العلم والحكمة وألبسه الهيبة , وإن كنا لا نعرف من هو ؟. ثم ذكروا في تسميته بذي القرنين وجوهاً :
الأول – ما روي أن ابن الكوّا سأل علياً عليه السلام عن ذي القرنين وقال: أملك هو أو نبي ؟ قال: لا ملكاً ولا نبياً , كان عبداً صالحاً ضرب على قرنه الأيمن فمات , ثم بعثه الله تعالى فضرب على قرنه الأيسر فمات , فبعثه الله فسمي ذا القرنين وفيكم مثله.
الثاني – سمي بذي القرنين لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس.
الثالث – قيل : كان صفحة رأسه من نحاس.
الرابع – كان على رأسه ما يشبه القرنين.
الخامس – كان لتاجه قرنان.
السادس – عن النبي صلى الله عليه وآله : أنه سمي ذا القرنين لأنه طاف قرني الدنيا شرقها وغربها.
السابع – كان له قرنان – أي ظفيرتان - .
الثامن – أن الله تعالى سخر له النور والظلمة فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتمتد الظلمة من ورائه.
التاسع – يجوز أن يلقب بذلك لشجاعته , كما يسمى الشجاع بالقرن لأنه يقطع أقرانه.
العاشر – أنه رأى في المنام : كأنه صعد الفلك وتعلق بطرفي الشمس وقرنيها – أي جانبيها – فسمي لهذا السببت بذي القرنين.
الحادي عشر – سمي بذلك لأنه دخل النور والظلمة.
القول الرابع : أن ذا القرنين ملك من الملائكة.
والقول الأول أظهر , للدليل الذي ذكرناه وهو : ان مثل هذا الملك العظيم يجب أن يكون معلوم الحال وهذا الملك العظيم هو الإسكندر فوجب أن يكون المراد بذي القرنين هو إلا أن فيه إشكالاً قوياً وهو : أنه كان تلميذاً لارسطا طاليس الحكيم وكان على مذهبه , فتعظيم الله إ ياه يوجب الحكم بأن مذهب ارسطا طاليس حق وصدق وذلك مما لا سبيل إليه.
اختلفوا في أن ذا القرنين هل كان من الأنبياء أم لا ؟ منهم من قال إنه كان من الأنبياء. واحتجوا عليه بوجوه :
الأول – قوله تعالى : ( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ ) والأولى حمله على التمكين في الدين , والتمكين الكامل في الدين هو النبوة.
الثاني – قوله تعالى : ( وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ) وهذا يدل على أن الله تعالى آتاه من النبوة سبباً.
الثالث – قوله تعالى : ( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ) والذي يتكلم الله معه لا بد وأن يكون نبياً. ومنهم من قال: إنه كان عبداً صالحاً وما كان نبياً.
قال السيد نعمة الله الجزائري رحمه الله : المستفاد من الأخبار كما قال شيخنا المحدث : انه غير الإسكندر وانه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وانه أول الملوك بعد نوح عليه السلام.
وأما إستدلاله فلا يخفى ضعفه بعد ما عرفت من أن الملوك المتقدمة لم تضبط أحوالهم بحيث لا يشذ عنهم أحد , وأيضاً الظاهر من كلام أهل الكتاب الذين يعولون عليهم في التواريخ عدم الإتحاد , والظاهر من الأخبار أيضاً أنه لم يكن نبياً ولكن كان عبداً صالحاً مؤيداً من عند الله تعالى.
وروى حذيفة قال: سألت النبي صلى الله عليه وآله عن يأجوج ومأجوج فقال: يأجوج أمة ومأجوج أمة , كل أمة أربعمائة أمة لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه , كل قد حمل السلاح. قلت يا رسول الله صفهم لنا ؟ قال: هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز , وهي شجر بالشام وصنف منهم طولهم وعرضهم سواء وهؤلاء الذين لا يقوم لهم جبل ولا حديد وصنف منهم يفترش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى , ولا يمرون بشيء إلا أكلوه , مقدمتهم بالشام ومؤخرتهم بخراسان , يشربون أنهار المشرق والمغرب.
وقال وهب ومقاتل : إنهم من ولد يافث بن نوح أب الترك.
وقال السدي : هم نادرة من ولد آدم , وذلك ان آدم احتلم ذات يوم وامتزجت نطفته بالتراب , فخلق الله من ذلك الماء والتراب يأجوج ومأجوج , فهم متصلون بنا من طرف الأب دون الأم .. انتهى وهو بعيد.
وأما سد ذي القرنين فقال أمين الإسلام الطبرسي : قيل: إن هذا السد وراء بحر الروم بين جبلين هناك يلي مؤخرها البحر المحيط. وقيل : أنه من وراء دربند وخزر من ناحية أرمينية وآذربيجان.
وجاء في الحديث : أنهم يدأبون في حفر السد نهارهم حتى إذا أمسوا وكادوا يبصرون شعاع الشمس قالوا نرجع غداً ونفتحه ولا يستثنون فيعودون من الغد وقد استوى كما كان , حتى إذا جاء وعد الله – يعني خروج القائم عليه السلام – قالوا غداً نفتح ونخرج إن شاء الله فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه بالأمس , فيخرقونه فيخرجون على الناس فينشفون المياه , فتحصن الناس في حصونهم فراراً منهم فيرمون سهامهم إلى السماء , فترجع وفيها كهيئة الدماء , فيقولون قد قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء , فيبعث الله عليهم بققاً في أقفائهم , فتدخل في آذانهم فيهلكون بها ودواب الأرض تسمن من لحومهم.
وفي تفسير الكليني : إن الخضر وإلياس يجتمعان في كل ليلة على ذلك السد , يحجبان يأجوج ومأجوج عن الخروج.